إقليم أزواد مطالب سياسية وانتفاضات تاريخية قديمة

لا شك أن وقوع الحروب من أبشع الكوارث التي يتسبب الإنسان في حدوثها، ومن أنحط المشاريع التي يدعمها الإنسان ويموّلها، لكن وراء كل حادثة حرب طويلة قصة ألم أطول، فالصراع الأزوادي (الشمال المالي) قصة قرون، ونزيف أمة لا يتوقف، وقضية هوية يُراد طمسها وذر رمادها في الرياح العاتية. فأهل الشمال المالي كغيرهم من الشعوب التي حاربت طويلا لأجل هويتها وكرامتها والنهوض تحت وطأة الاستعمار، منذ 1957 إلى يومنا هذا، وفي كل محاولة سرعان ما يجد الثائرون منزلقات وعواقب
تخمد ثورتهم قبل أن تأتي طيبها. ولازال النضال مستمرا.
ففي موسم النهوض تحت ثقل الدكتاتورية والثورات التي اجتاحت الوطن العربي وشمال أفريقيا بالتحديد قام أبناء شمال مالي (الطوارق والصونغاي والعرب والفولان)، بتحريك تلك الصخرة – النظام المالي – التي جمست على صدورهم سنين من الزمن؛ ظنا منهم أن العالم سيقف معهم سياسيا وإعلاميا واقتصاديا بالشكل الذي وقف فيه مع أبناء تونس فمصر ثم ليبيا واليمن وسوريا التي تئن حتى الآن. حسبوا أن العالم يتألم بألم الشعوب، وبدأ يحس بأنينهم، والدليل أساطيله وهو يحارب النظام الليبي السابق، والدليل التغطية الإعلامية المباشرة التي حظيت بها تونس ومصر وليبيا. الدليل المساعدات الإنسانية التي قدمتها الشعوب الهادئة للشعوب الثائرة. دلائل كثيرة أغرت الأزواديين ببراءة العالم اليوم.
وقامت الحرب في أزواد “شمال مالي” بين الأزواديين والنظام المالي وسرعان ما انهزم النظام وتراجع إلى الجنوب. تاركا الشماليين وأرضهم أزواد. ولم يتنفس أحد حتى قامت ثلاثة مجموعات دينية بإعلان ميلادها الأول في أرض يحتاج – في نظرهم – إلى الدين أكثر مما يحتاج إلى الأمن، يحتاج إلى تطبيق الشريعة قبل أن يجلس على الأرض من تُطبق في حقه الشريعة، يحتاج إلى السلاح اكثر مما يحتاج إلى العلم. لم تكن المجموعات تنظر إلى مآسي المجتمع ونزوحه وحاجته إلى الأمن والأمان، حاجته إلى الدواء والغذاء، حاجته إلى أن يعرفوه قبل أن يطلقوا عليه اسم الطاغوت، قيل لهم أن مجتمع سكان إقليم أزواد (شمال مالي) كلهم مسلمون على مذهب الإمام مالك، وعندهم شيوخ أجلاء، عندهم أهل الحل والعقد، عندهم تينبكتو أقدم وأكبر مدينة لمخطوطات إسلامية وفقهية في شمال أفريقيا كلها. عندهم مساجد في كل جبل وواد وفي كل سهل ومرتفع، لكنها لا تتقي الرياح والأمطار. لأنها من الأساس الاول فقط. قيل لهم كل ذلك وأبوا إلا أن يعلنوا المجتمع كافرا، ولابد من تطهيره بالسلاح لا بالعلم، بالتفريق لا بالوحدة.
وأصبح كل من يخالفهم عدوهم، وبدأ القصاص وقطع الأطراف على الخلاف، وأُجبرت الحركة الرابعة في الإقليم – الوحيدة التي تنتهج السياسية- وهي الحركة الوطنية لتحرير أزواد، على أن تختار أحد الخيارين أحلاهما مرّ – كما يقولون- إما أن تتقاتل معهم، وبين صفوفهم بعض أبناء البلد الذين غرّوهم باسم الدين ومحاربة الكفر؛ لأن حركة الأزود ذات الأغلبية لدى الشعب الأزوادي، والتي تتكون من كل القبائل الأزوادية “شمال مالي” طاغوت في نظرهم، ويد خفية للنظام الكافر في فرنسا والقوى الكبرى، أو تخرج الحركة الوطنية لتحرير أزواد، من كل المناطق التي أخذتها من النظام المالي. وهم بدورهم يطبقون الشريعة بها. ففضلت الحركة عدم الاقتتال بين تلك الجماعات وخاصة جماعة أنصار الدين التي معظمها من الأزواديين الشماليين، والتي عقدت مع الحركة الوطنية عدة اجتماعات داخل أزواد وخارجه بغية التوصل إلى حل سلمي بين الأزواديين بعيدا عن السلاح والدمار والخلاف، وتنازلت الأخيرة على كل ما هو ممكن، ورفضت الأولى انسلاخها من الجماعات الجهادية أو التعاون معها ضد بني وطنهم.
فتأزم الوضع وازدادت الخطورة، في المناطق التي تتجول فيها الجماعات، فانعدم الامن، وساءت المعيشة، وكثر النازحين. وفي مثل هذا الحال يتوجب الاستنجاد بقوة خارجية، وكانت فرنسا جاهزة قبل ذلك بالتنسيق مع النظام المالي ومجموعة غرب أفريقيا ( سيدوا). فلبت النداء بحجة مساعدة الأزواديين والوقوف معهم ضد الإرهابيين طبعا، ومع وحدة مالي في الوجه الآخر، عند الجنوبيين.
فجاءت فرنسا بجيشها ومن دعمها ماليا وعسكريا، فقصفت بعض المواقع، للجهاديين، فتلاشت الحركات الجهادية التي جلبت أنظار العالم إلى إقليم أزواد في اليوم الثالث من الضربات، فتحصنت بالجبال القريبة من الجزائر بعيد عن أعين العالم.
ويجدر بالذكر أن قبل التدخل العسكري الفرنسي بشهور – بل في بداية الأحداث- كشفت الحركة الوطنية الأزوادية العلاقة الوطيدة القديمة والجديدة بين هذه الجماعات الثلاث (تنظيم القاعدة، وأنصار الدين، وحركة التوحيد والجهاد) والجزائر باعتبارها الأم التي ترعاها ومنها تأخذ كل قوتها وإمداداتها، وبالتالي تنفذ هذه الجماعات أوامر الأم.
فعند ما ابتعدت الحركات الجهادية عن الأعين خلّفت ورائها بعض الجيوب التي تنفذ بعض الهجمات وعمليات انتحارية دون خسائر من الجانب المستهدف. فصار أمن الدول المحيطة لمالي في خطر، كعادة الحروب والنيران. لن يطال شررها القريب والمتدفئ بها فقط. بل بعض الشرر قد ينتشر ويطال الجيران. فأبدت الجزائر استعداداتها لمقاومة الهاربين إليها من الجماعات تلك، وتعاونها مع القوة الدولية. وشاركت النيجر بإرسال مجموعة من قواتها، وكذلك فعلت دولة اتشاد … إلخ.
وجاءت فرنسا وضربت الضربات الأولى، وبالطبع تحتاج إلى من يقف معها من أبناء البلد، لأنها أعقل بالطبع من أن تقود حربا دون مشاركة طرف من أهل المنطقة، وإلا صار غزوا، يوجه إلى كل السكان، وفي هذا الحالة يكون الأمر أكثر سوء بالنسبة إلى فرنسا المعادية، على الاقل في نظر السكان، وبالتالي يسهل تحريضهم ضد الغازي، وإن اعتمدت على أهل الجنوب ضد أهل الشمال سيكون حربا عرقيا أولا، ويهدف إلى إعادة شمال مالي لأحضان الجنوب ثانيا، ويكون هدف الحركة الوطنية لتحرير أزواد الرامي إلى الاستقلال، والنهوض بالشماليين، وهدف الحركات الجهادية الساعي إلى تطبيق الشريعة ونشر الجهاد هو الآخر، كلاهما في سلة المحذوفات، وفرنسا أعقل من أنْ تقْدم على كهذا عمل.
ولم يبق أمامها إلى أن تنسق مع الحركة الوطنية الأزوادية، كونها أقرب الحركات إلى عامة الأزواديين، وكونها متكونة من كل الأطياف الأزوادية، وأقربها أيضا إلى العالم، وأكثرها قبولا للمفاوضات. كل ذلك جعل فرنسا تبدي اتفاقا وتنسيقا مع الحركة الوطنية لتحرير ازواد.
ويرى بعض المراقبين أنّ قادة الحركة الوطنية الأزوادية مرتبطون بالحكومة الفرنسية، والمجتمع الدولي، وبينهما اتفاقات، مدروسة على أساسها يتحرك الجميع، وهذا جزء من التحليلات المتداولة الآن، وتأتي هذه التحليلات على ضوء تحركات الحركة الوطنية مع الجيش الفرنسي والتشادي والاجتماعات بينهما، وسمحت فرنسا لجيش الحركة الوطنية لتحرير أزواد بالسيطرة الكاملة محافظة كيدال ثالث أكبر مدن الشمال وكافة البلدات والقرى التابعة لها، وكذلك مدينة مينكّـه التاريخية رابع المدن الكبرى وما يتبعها. ويرى مراقبون آخرون أن فرنسا كعادتها لا تريد السلام ولا استقرار للمنطقة، لأن كل هذه الدول مستعمراتها القديمة، ولها اليد الطويلة عليها حتى الآن. ولو أرادت السلام لرعت المفاوضات بدل التدخل العسكري. لكن -حسب وجهة نظرهم- فرنسا تلعب بأهل “أزواد” الشمال المالي جميعا كل الحركات بصفة عامة، وهذا أيضا ناتج من تسليم فرنسا لغاوا عاصمة الشمال وتينبكتو المدينة الأثرية للجيش المالي. وسكوتها على الجرائم والإبادات الجماعية والانتهاكات العرقية التي ترتكبها الجيش المالي في كل من غاوا عاصمة إقليم أزواد، وتينبكتو، والمجازر اللا محدودة التي ترتكبها الخلايا المتعصّبة من الجيش المالي المتواجدة في المناطق الجنوبية ضد أهل الشمال.
وعلى كل فالإقليم لا يتواجد فيها إلا الحركة الوطنية لتحريرأزواد، والقوات الفرنسية إضافة إلى كتائب من جيش أفريقيا الغربية ( إيكواس)– وحدات من اتشاد والنيجر على سبيل المثال- ولا وجود للحركات الإرهابية. ويعيش الشمال نوعا من الهدوء والترقب، في حين يعيش الجنوب، تصفيات تعملها قوات مالي ضد كل من هو أزوادي، أو أبيض، ( الطوارق والعرب). ويطال الأمر بعض السكان العزل الذين يسكنون بجانب المدن التي سُلمت لهم مؤخرا من قبل فرنسا.
كلما أعدنا النظر في تحليل الأزمة المالية الأزوادية، اكتشفنا أنه لا حل سوى حل الحوار، والتزام الهدوء.
وعلى ما يبدو فلن يكون هناك ناجح بمنطق القوة والسلاح في الوقت العاجل، والمؤكد أن الخاسر الأول، والأخير هو الشعب الأزوادي المغلوب على أمره، والواقع تحت نيران الأقوياء من كل جانب، ثم دول الجوار، خاصة الضعيفة كموريتانيا، والنيجر، وبوركينا، ومن ثم الدول ذات المصالح في المنطقة الساحلية، لذلك على العالم التريث، ووضع ألف حساب لما ستؤول إليه الأمور، وعـدم تجـاهـل هذه المشكلة القديمة الجديدة قضية شمال المالي “أزواد”.
ولا ريب في أن الحرب بدون شك سلبا على إيجاد حل سريع لقضية الشماليين الأزواديين التاريخية، وهم لن ينسوها أيضا، مما يعني المزيد من التعقيد، والضبابية على مستقبل المنطقة برمتها، وإلى مسلسل من مشاكل لا خاتمة لها!. إذا لم تجــد دول الجوار حلاًّ نهائياً لهذه القضية الشائكة والمعقدة، والحــل النهائي يكمن في إعطاء المنطقة حكماً ذاتياً أو كونفيدرالي موسع، وتنمية المنطقة تنمية شاملة.
إعداد/ أحمد خميس نوح
نيامي 10/02/2013